أن هذه الدار رحلة
من بذل وسعه في التفكير التام علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رحلة و يعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطن الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات و هي دار الخلود و العدو سبانا إلى دار الدنيا فنجتهد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى وفي مثل هذا قيل :
فحي على جنات عدن فإنها
... منازلك الأولى و فيها المخيم
و لكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم
و ليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير و يقطع بالأنفاس و يسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها و هو جالس فيها كما قيل :
إنما هذه الحياة متاع ... فالغوي الشقي من يصطفيها
مامضى فات و المؤمل غيب ... و لك الساعة التي أنت فيها
و لا بد له في سفره من زاد و لا زاد إلى الآخرة إلا التقوى فلا بد من تعب الشخص و التصبر على مرارة التقوى لئلا يقول وقت السير : ارجعون فيقال : كلا فليتنبه الغافل من كسل مسيره فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفا لعباده لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم و نهجهم القويم فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة فرأى ما يخاف منه فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته و يبكي من قسوته فإذا انتبه من رقدة كسله علم أن الدنيا دار غرور طبعت على كدر كما روى ابن أبي الدنيا قال : أنشدني الحسن بن السكن :
حياتك بالهم مقرونة ... فما تقطع العيش إلا بهم
لذاذات دنياك مسمومة ... فما تأكل الشهد إلا بسم
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زلولا إذا قيل تم )
و كما قيل في المعنى :
حكم المنية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا ... حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر و أنت تريدها
... صفوا من الأقذاء و الأكدار
و قال بعض السلف : احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت و ماروت فإنهما يفرقان بين المرء و زوجه و الدنيا تفرق بين العبد و ربه
و ذكر ابن أبي الدنيا هذا الأثر مرفوعا قال جعفر بن سليمان : سمعت مالكا يقول : اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء ـ يعني الدنيا ـ
و ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى الحسن البصري أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز : أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة و إنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها و الغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها و تفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه و هو حتفه فكن كالمداوي جراحته يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا و يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الحيالة الخداعة التي ازينت بخدعها و فتنت بغرورها و ختلت بآمالها و تشرفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية فالعيون إليها ناظرة و القلوب عليها والهة و النفوس لها عاشقة و هي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر و لا الآخر على الأول مزدجر و لا العارف بالله عز و جل حين أخبر عنها مدكر فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر و طغى و نسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه فعظمت ندامته و كثرت حسرته فخرج بغير زاد و قدم على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين و كن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه إلى مكروه قد وصل الرخاء منها بالبلاء و جعل البقاء فيها إلى فناء فسرورها مشوب بالحزن لا يرجع منها ما ولى فأدبر و لا يدرى ما هو آت فينتظر أما نيها كاذبة و آمالها باطلة و صفوها كدر و عيشها نكد و ابن آدم فيها على خطر و لقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه و سلم بمفاتيحها و خزائنها فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا و بسطها لأعدائه اغترارا جاءت الرواية أنه تبارك و تعالى قال لموسى عليه السلام : إذا رأيت الغني مقبلا فقل : ذنب عجلت عقوبته و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين
و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا
و في آخر المخطوط التي تمت الطباعة وفقا له ما يأتي بخط المؤلف :
علقها مؤلفا محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي كان الله له و سامحه بمنه وكرمه من نسخة أصله في رجب الفرد سنة سبع و سبعين و سبعمائة أحسن الله عا قبتها
الموسوعه الشامله
من بذل وسعه في التفكير التام علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رحلة و يعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطن الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات و هي دار الخلود و العدو سبانا إلى دار الدنيا فنجتهد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى وفي مثل هذا قيل :
فحي على جنات عدن فإنها
... منازلك الأولى و فيها المخيم
و لكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا و نسلم
و ليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير و يقطع بالأنفاس و يسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها و هو جالس فيها كما قيل :
إنما هذه الحياة متاع ... فالغوي الشقي من يصطفيها
مامضى فات و المؤمل غيب ... و لك الساعة التي أنت فيها
و لا بد له في سفره من زاد و لا زاد إلى الآخرة إلا التقوى فلا بد من تعب الشخص و التصبر على مرارة التقوى لئلا يقول وقت السير : ارجعون فيقال : كلا فليتنبه الغافل من كسل مسيره فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفا لعباده لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم و نهجهم القويم فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة فرأى ما يخاف منه فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته و يبكي من قسوته فإذا انتبه من رقدة كسله علم أن الدنيا دار غرور طبعت على كدر كما روى ابن أبي الدنيا قال : أنشدني الحسن بن السكن :
حياتك بالهم مقرونة ... فما تقطع العيش إلا بهم
لذاذات دنياك مسمومة ... فما تأكل الشهد إلا بسم
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زلولا إذا قيل تم )
و كما قيل في المعنى :
حكم المنية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا ... حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر و أنت تريدها
... صفوا من الأقذاء و الأكدار
و قال بعض السلف : احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت و ماروت فإنهما يفرقان بين المرء و زوجه و الدنيا تفرق بين العبد و ربه
و ذكر ابن أبي الدنيا هذا الأثر مرفوعا قال جعفر بن سليمان : سمعت مالكا يقول : اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء ـ يعني الدنيا ـ
و ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى الحسن البصري أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز : أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة و إنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها و الغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها و تفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه و هو حتفه فكن كالمداوي جراحته يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا و يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الحيالة الخداعة التي ازينت بخدعها و فتنت بغرورها و ختلت بآمالها و تشرفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية فالعيون إليها ناظرة و القلوب عليها والهة و النفوس لها عاشقة و هي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر و لا الآخر على الأول مزدجر و لا العارف بالله عز و جل حين أخبر عنها مدكر فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر و طغى و نسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه فعظمت ندامته و كثرت حسرته فخرج بغير زاد و قدم على غير مهاد فاحذرها يا أمير المؤمنين و كن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه إلى مكروه قد وصل الرخاء منها بالبلاء و جعل البقاء فيها إلى فناء فسرورها مشوب بالحزن لا يرجع منها ما ولى فأدبر و لا يدرى ما هو آت فينتظر أما نيها كاذبة و آمالها باطلة و صفوها كدر و عيشها نكد و ابن آدم فيها على خطر و لقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه و سلم بمفاتيحها و خزائنها فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا و بسطها لأعدائه اغترارا جاءت الرواية أنه تبارك و تعالى قال لموسى عليه السلام : إذا رأيت الغني مقبلا فقل : ذنب عجلت عقوبته و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين
و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا
و في آخر المخطوط التي تمت الطباعة وفقا له ما يأتي بخط المؤلف :
علقها مؤلفا محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي كان الله له و سامحه بمنه وكرمه من نسخة أصله في رجب الفرد سنة سبع و سبعين و سبعمائة أحسن الله عا قبتها
الموسوعه الشامله